سورة الحجر - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجر)


        


{الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5)}.
التفسير:
مناسبة هذه السورة لما قبلها. هى أن ختام السورة السابقة كان قوله تعالى: {هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ} وهذا الختام يحدّث عن القرآن الكريم بأنه بيان مبين للناس، وبلاغ يبلغ بهم طريق الحق والإيمان- فكان مفتتح هذه السورة- سورة الحجر- حديثا آخر عن القرآن الكريم، بأنه كتاب وقرآن مبين، فكان هذا البدء مؤكدا لهذا الختام.
وقوله تعالى: {الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} {الر} مبتدأ، وما بعده خبر.
والإشارة بتلك، مشار بها إلى آيات الكتاب، والتقدير: {الر} تلك هى آيات الكتاب، وآيات قرآن مبين.
وفى الإشارة، تنويه بهذه الآيات، وإلفات الأنظار إلى جلالها وعلوّ شأنها، وأنها إنما يشار إليها كما يشار إلى النجوم في أفلاكها.
وفى الإشارة إلى القرآن الكريم بأنه {آيات الكتاب}، وأنه {قرآن مبين}.
وصف للقرآن بصفتين:
الصفة الأولى: أنه آيات مكتوبه.. أي من شأنها أن تكتب، احتفالا بها، واهتماما بشأنها. وذلك في أمة أميّة، لم تكن تكتب شيئا إلا ما يشتد حرصها عليه، وضنّها به، أن يفلت من ذاكرتها شيء منه.. وهذا ما فعلته بالمعلقات، وببعض العهود والمواثيق ذات الشأن العظيم عندها! فإذا نبّه المسلمون من أول الأمر إلى أن هذا الذي يتلوه عليهم رسول اللّه من كلمات ربّه، يجب أن يكتبوه، كان ذلك إلفاتا لهم إلى أن تلك الآيات، هى عهود ومواثيق بينهم وبين ربهم.
إذا عرفنا هذا أدركنا السرّ في أن كان أول ما تلقاه النبىّ من كلمات ربّه هوقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} فكانت نعمة التعليم بالقلم، وهى الكتابة، معادلة لنعمة الخلق، والحياة.. فكما أن اللّه- سبحانه- بالخلق أوجد الإنسان من عدم، كذلك بالعلم علّم الإنسان الكتابة، فسوّى خلقه، وأتمّ عليه نعمته! وفى هذا إشارة إلى أن خلق الإنسان لن يكمل ويقوم على الصورة السويّة، إلا إذا تجمل بالعلم، الذي وسيلته الأولى، التعلم، الذي مفتاحه الكتابة والقراءة!! والصفة الثانية التي وصف بها القرآن الكريم أنه {قُرْآنٍ مُبِينٍ}.
وفى هذا إشارة إلى أن آيات اللّه تلك، لم تكتب، ولم تودع في كتاب، لتعلّق كما علقت المعلقات، وكما أودعت العهود والمواثيق بعد كتابتها في أحراز، وإنما كتبت آيات اللّه هذه، لتقرأ وتتلى، ولتكون ذكرا دائما على ألسنة المؤمنين، تعمر بها قلوبهم، وتغتذى منها أرواحهم، وتستبصر بها بصائرهم.!
قوله تعالى: {رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ}.
ربّ: حرف جر يفيد التقليل.. فإذا اتصلت به {ما} دخل على الأفعال، وهو هنا مخفف من ربّ الثقيلة.
هذا، ولم يرد هذا الحرف في القرآن الكريم إلّا في هذا الموضع.
وقد بذل المفسرون كثيرا من الجهد في التأويل والتخريج، ليجدوا لهذا الحرف وجها مفهوما، يستقيم مع الآية الكريمة.. وكان محصول هذا كلّه أقوالا متهافتة، رأينا من الخير ألا نقف عندها، وأن نأخذ بما أرانا اللّه سبحانه من فهم، استراحت له النفس، واطمأن إليه القلب.
فالآية التي سبقت هذه الآية، وهى التي بدئت بها السورة الكريمة، تشير إلى القرآن الكريم، وإلى آياته البينات.. {الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ.. وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}.
ومقصود هذه الإشارة هو لفت الأنظار، وتوجيه القلوب والعقول إلى آيات اللّه تلك، ففيها الهدى لمن نظر واعتبر.. ولكن قليل من الناس هم الذين ينظرون، ويعتبرون، ويهتدون.. أما أكثرهم فهم عن ذكر ربّهم معرضون، وبآيات اللّه، وبرسله، يمكرون.. ومن هنا كان المؤمنون دائما قلّة بالنسبة إلى أهل الزيغ والضلال.. كما يقول الحق تبارك وتعالى: {وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [103: يوسف].. وكما يقول سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [89: الإسراء].. وكما يقول جل شأنه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [116: الأنعام].
وفى قوله تعالى: {رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ} تقرير لهذه الحقيقة الواقعة في الحياة، وهى أن أكثر الناس هم الكافرون، وأقلّهم هم المؤمنون.. وأن هذه الآيات البينات التي بين يدى النبىّ الكريم لن يكون منها أن تهدى الناس جميعا، فليوطن النبىّ نفسه على هذا، وليعلم أنه مهما اشتد حرصه على هداية قومه، فلن يهتدوا جميعا، وحسبه أن يستنقذ من الكفر والضلال، تلك القلّة الكريمة التي استجابت له.. فقليلها خير من كثير.
فليحمل النبىّ الكريم هذا النور الذي بين يديه، وهو على علم بأنه يشق طريقه وسط ظلام كثيف، وأن قلّة من الناس، هى التي تكتحل عيونها بهذا النور، فتتبعه، وتهتدى به إلى اللّه! وفى هذا عزء للنبىّ، وتسرية له من الهموم التي كان يعانيها، من تأبّى قومه عليه، وعنادهم له.. فتلك هى سنّة الحياة، وأولئك هم الناس!! فالآية الكريمة هنا، هى خطاب خاص للنبىّ الكريم، يراد به أن يتخفف النبىّ كثيرا من مطامحه في إقامة الناس جميعا على طريق الإيمان، حتى لا تذهب نفسه حسرة، على هؤلاء الذين يموتون بين يديه، وهم على ضلالهم وشركهم، كما يقول اللّه تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ} [8: فاطر] وكما يقول جل شأنه: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [6: الكهف].
وعلى هذا يكون معنى الآية.. ادع يا محمد بهذا الكتاب الذي معك، وأنت على بعض الرجاء، لاكل الرجاء في أن تجد لدعوتك آذانا تسمع، وقلوبا تفقه، وتستجيب، وتؤمن.. فادع إلى سبيل ربّك، بآيات ربك، وقل: لعلّ وعسى!! أو قل: {رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ!} وهنا لا بد من الإشارة إلى أمور:
أولا: المراد من كلمة {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
فإن الود للشىء، معناه الرغبة فيه، وإيثاره على غيره.
وهذا يعنى أن الإيمان لا يكون عن إكراه، وإنما عن رغبة، وحبّ، وإيثار.
وهذا يعنى- من جهة أخرى- أنه ليس للنبى أن يحمل المعاندين حملا على الإيمان، وألا يجيئهم إليه عن طريق الإخراج الأدبى، تحت عواطف القرابة أو الصداقة.. إن ذلك يكون أشبه بطعام طيب يتناوله مريض، أو ممعود، في غير اشتهاء له، ولا رغبة فيه.. فمثل هذا الطعام لا تهضمه المعدة، ولا ينتفع به الجسم.. والمعنى: ربما يرغب الذين كفروا في أن يدينوا بهذا الدّين.
وثانيا: قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا} حيث يبدو من ظاهر اللفظ أنه يشمل الكافرين جميعا.
ونعم، هو كذلك.. فدعوة اللّه إلى الإيمان به موجهة إلى الناس كلّهم.
وعين الرسول الكريم تنظر إليهم جميعا، ويده الكريمة ممدودة لهم كلّهم.
حيث لا يدرى من يستجيب له، ومن لا يستجيب.. فالإيمان مطلوب من الكافرين جميعا.. ومطلوب منهم كذلك أن يجيئوا إليه برغبة صادقة، ومودة خالصة.. تعمر القلب، وتشرح الصدر! ولكن قليل هم أولئك الذين يعرفون الحق ويؤثرونه على الأهل والولد.
وسؤال يعرض لنا هنا.. وهو: كيف يؤدى النبىّ رسالته، وكيف يعطيها كل مشاعره وأحاسيسه، وهو على يقين من أنه لن يبلغ بدعوته إلى قلوب الناس جميعا؟ أليس في ذلك توهين لعزمه، وإخماد لجذوة الأمل التي ينبغى أن تكون مشتعلة في نفس كل داعية، حتى يعطى دعوته كلّ جهده، وعزمه، وصبره؟
والجواب: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرسل من قبل ربه برسالة، ومأمور بأن يبلغها، وأن يجتهد في تبليغها، وأنه إن لم يفعل فما بلغ الرسالة، ولا أدّى الأمانة.
وقد امتثل النبي أمر ربه، وصدع به، واجتهد الاجتهاد كلّه، حتى لقد كادت نفسه تذهب حسرة وأسى على من كان يفلت من يد ه، ويموت على الشرك والضلال من قومه.
فهذا التوجيه الرباني الذي حمله قوله تعالى إلى النبي الكريم: {رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ} هذا التوجيه، هو دعوة إلى النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يتخفف من هذا الشعور الضاغط عليه، والمؤرّق له، وأن يكون على علم من أنه لن يهدى من أضلّه اللّه، وختم على سمعه وقلبه.. وهم كثير غير قليل.. وقد عتب سبحانه وتعالى على النبي الكريم مشفقا عليه من هذا العناء الذي يعنّى به نفسه، في شد المعاندين شدّا إليه، وهم يدفعونه، ويتأبّون عليه.. فيقول سبحانه: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى؟ وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟} [5- 7: عبس].
قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
فى هذه الآية ما يؤيد الفهم الذي فهمنا عليه الآية السابقة، من أنها دعوة إلى النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يرفق بنفسه، وألا يجعل من همّه أن يقيم الناس جميعا على طريق الإيمان، فذلك أمر لا يقع أبدا.
وفى قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} توكيد لهذه الدعوة، وإخلاء ليد النبىّ الكريم من الإمساك بهؤلاء الذين يحرنون عليه، ويشردون منه.. فليدعهم وما اختاروا لأنفسهم من حياة، كل همهم فيها أن يأكلوا، ويتمتعوا، ويتلهّوا بالآمال الكاذبة، التي تقيم لهم من دنياهم تلك، عالما من سراب، تتراقص على أمواجه عرائس زائفة، ينخدع لها الحمقى والسفهاء من الناس، ويقطعون العمر في جرى لاهث وراءها!- وفى قوله تعالى {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين رضوا بهذه الحياة، واطمأنوا بها، وأذهبوا طيباتهم فيها، واستهلكوا وجودهم في لذاذاتها الفانية.. إنهم في سكرة يعمهون.. فإذا جاء أجلهم، صحوا من سكرتهم، ووجدوا ما عملوا من سوء حاضرا بين أيديهم، يقودهم إلى عذاب السعير.
قوله تعالى: {وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ} في هاتين الآيتين الكريمتين، وعيد بعد وعيد، لهؤلاء المشركين.
وأنهم إذا كانوا لم يؤخذوا بكفرهم وعنادهم وضلالهم، إلى هذا اليوم الذي هم فيه، فما ذلك إلا لأن اللّه سبحانه وتعالى لم يأذن بهلاكهم بعد، وذلك لما اقتضته حكمته.. فكل قرية لها عند اللّه أجل معلوم، كما أن لكل إنسان أجله الموقوت... فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون {ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ}.
فلا يغترنّ هؤلاء الكافرون بإمهال اللّه سبحانه وتعالى لهم.. فذلك ابتلاء منه سبحانه كما يقول جلّ شأنه: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ} [109- 111: الأنبياء].


{وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} لذّكر: هو القرآن، كما يقول الحق سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}.
والآية الكريمة تحدث عن مقولة من مقولات المشركين المنكرة، وتكشف عن موقف من مواقفهم السفيهة، من النبىّ، إذ يلقون النبىّ بهذا الاستهزاء، ويلقون إليه بتلك السبّة المفضوحة.. {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}.
يقولونها هكذا.. في تأكيد وإصرار!- وفى الإشارة إلى النبي بقولهم: {يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} استصغار للنبىّ وإحقار له، إذ ينادونه من مكان بعيد.. {يا أَيُّهَا الَّذِي}.
مع إعراضهم عن ذكر اسمه.. ومناداته بالصفة التي جاءهم عليها، إنما كأنه إنكار لتلك الصفة، وتشنيع عليه بها.. إذ كانوا ينكرون على النبي أن ينزل عليه هو الذكر، من بينهم، كما يقول سبحانه وتعالى عنهم: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [25: القمر] وقوله تعالى: {لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
يكشف عما أراده المشركون بقولهم: {يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} وأنهم إنما يقولون ذلك استهزاء وسخرية وتكذيبا، ولهذا جاء قولهم: {لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} تحدّيا للنبىّ أن يدفع التهمة التي يتهمونه بها، وهى الادعاء الكاذب، بأنه يحمل إليهم آيات اللّه التي أوحيت إليه.. فإن كان ذلك الذي يدّعيه حقّا، وأنه متصل بالسماء، فليأت بالملائكة تحدثهم، وتشهد له أنه رسول اللّه.. عندئذ يعرف صدقه، ويقبل قوله! ولو ما: حرف تحضيص، بمعنى هلّا.
قوله تعالى: {ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} أي لا ينزل اللّه سبحانه الملائكة، استجابة لأهواء أصحاب الضلالات، وإنما ينزلهم سبحانه بما يأمرهم به، كالسفارة بينه وبين رسله، أو كالعذاب الذي يرسلهم به إلى من يريد إهلاكهم من القوم الظالمين. وكل هذا حقّ من عند اللّه سبحانه..!
وفى قوله: {وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} تهديد لهؤلاء المشركين، وأنهم إذا استجاب اللّه لهم، ونزلت الملائكة عليهم كما يقترحون، فإنهم لا ينزلون عليهم إلا بالهلاك والبلاء، بعد أن نزلوا عليهم على يد رسوله بالرحمة والهدى.
وفى هذا يقول اللّه سبحانه: {وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} [8: الأنعام].
وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}.
هو ردّ على هؤلاء المشركين الذين سخروا من النبىّ بقولهم: {يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} فجاء قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} كبتا لهؤلاء المشركين، وردعا لهم، وإعلانا بما يملأ صدورهم حسدا وحسرة.. فقد أبوا إلا أن يجهلوا الجهة التي يقول النبىّ إنه تلقّى الذّكر منها، فقالوا {نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} ولم يقولوا- ولو على سبيل الاستهزاء- نزّل اللّه عليه الذكر.. فجاءهم قول الحق جلّ وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} بهذا التوكيد القاطع.. ثم جاء قوله تعالى {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} مؤكدا لهذا التوكيد.. إذ أنه سبحانه هو الذي يتولى حفظه من كل عبث، وصيانته من كل سوء.. وهذا هو الدليل القاطع على أنه منزّل من عند اللّه.. فليحاولوا أن يبدّلوا من صورته، أو يدسّوا عليه ما ليس منه.. فإنهم لو فعلوا، لكان لهم من ذلك حجة على أن ليس من عند اللّه! وقد حفظ اللّه القرآن الكريم، هذا الحفظ الربانىّ، الذي أبعد كلّ ريبة أو شكّ في هذا الكتاب، فلم تمسسه يد بسوء، على كثرة الأيدى التي حاولت التحريف والتعديل، فردّها اللّه، وأبطل كيدها وتدبيرها.. وهكذا ظلّ القرآن الكريم، وسيظل إلى يوم البعث، حمى اللّه الذي تحرسه عنايته، وتحفظه قدرته، فلم تنخرم منه كلمة، أو يتبدل منه حرف.. وتلك حقيقة يعلمها أولو العلم من خصوم الإسلام، كما يؤكدها تاريخ القرآن الكريم، الذي تولّى النبىّ الأمى كتابته في الصحف، كما تولّى غرسه في صدور المؤمنين.. كلمة كلمة، وآية آية.
سئل بعض العلماء: لم جاز التحريف والتبديل على الكتب السماوية السابقة، ولم يجز هذا على القرآن الكريم؟ فقال: إن الكتب السماوية السابقة قد وكل اللّه حفظها إلى أهلها، كما يقول اللّه تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ} [44: المائدة]. فأهل الكتاب هم الذين استحفظوا أي وكّلوا بحفظ كتبهم.. ومن هنا جاز أن يفرطوا في هذه الأمانة التي في أيديهم، وأن يدخل عليها ما دخل من تبديل وتحريف.. أما القرآن الكريم فقد تولّى اللّه سبحانه وتعالى حفظه، ولم يكله إلى أهله.. فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}.
ومن ثمّ كان من المستحيل أن يدخل على القرآن الكريم- وهو في حراسة اللّه- تغيير كلمة، أو تبديل حرف!!.
والسؤال هنا: لم وكل اللّه سبحانه وتعالى حفظ الكتب السماوية السابقة إلى أهلها، ولم يتولّ سبحانه وتعالى حفظها، وهى من كلماته، كما تولّى ذلك سبحانه، بالنسبة للقرآن الكريم؟.
والجواب على هذا، واللّه أعلم:
أولا: أن الكتب السماوية السابقة مرادة لغاية محدودة، ولوقت محدود، وذلك إلى أن يأتى القرآن الكريم، الذي هو مجمع هذه الكتب، والمهيمن عليها.. وهو بهذا التقدير الرسالة السماوية إلى الإنسانية كلها في جميع أوطانها وأزمانها.
فلو أن الكتب السماوية السابقة، كان لها هذا الحفظ من اللّه سبحانه، لما دخلها هذا التحريف والتبديل، ومن ثمّ لم يكن للقرآن الكريم هيمنة عليها، ولم يكن ناسخا لها.. الأمر الذي أراد اللّه سبحانه وتعالى للقرآن الكريم أن يجىء له.
وثانيا: هذا التبديل والتحريف الذي أدخله أهل الكتب السابقة على كتبهم، لا يدخل منه شيء على آيات اللّه وكلماته.. كما لم يدخل شيء من ذلك على آياته الكونية، التي يغوى بها الغاوون، وينحرف بها المنحرفون.
وكما لا يدخل شيء من النقص على ذاته الكريمة، أو صفاته وكمالاته، إذا جدّف المجدفون على اللّه، ونظروا إلى ذاته وصفاته بعيون مريضة، وقلوب فاسدة، وعقول سقيمة.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ، وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.
الشّيع: جمع شيعة.. وشيعة المرء، من يجتمعون إليه من أهل وعشير.
وفى قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} إشارة إلى أن كل رسول أرسل من عند اللّه، كان مبعوثا إلى قومه الذين يعرفهم ويعرفونه.. كما يقول سبحانه: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [4: إبراهيم].
وفى قوله سبحانه: {وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} مواساة كريمة للنبىّ، وتخفيف عليه، مما يلقى من قومه من عنت ومكروه.
فتلك هى سبيل الرسل مع أقوامهم.. كلها أشوك، يزرعها السفهاء والحمقى في طريق رسل اللّه إليهم.. فليس الرسول إذا بدعا من الرسل، فيما لقى من قومه، من سفاهات وحماقات، فلقد كان إخوانه الذين سبقوه من رسل اللّه، يلقون مثل ما لقى، من استهزاء وتكذيب.. بل ومنهم من رجم وقتل، ولم يشفع لهم في ذلك، ما بأيديهم من هدى، ولا ما بينهم وبين أقوامهم من آصرة النسب والقرابة.
قوله تعالى: {كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}.
يقال سلك الطريق: أي سار فيه، ومنه قوله تعالى: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} [69: النحل].. وسلك الشيء في الشيء: إدخاله فيه، ومنه قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [32: القصص].. وقوله تعالى: {فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [27: المؤمنون] ومنه السلك، وهو الخيط الذي تنتظم فيه حبات العقد.
وفى قوله تعالى: {كَذلِكَ} إشارة إلى أن ما كان من الأقوام السابقين من تكذيب لرسل اللّه، واستهزاء بهم، هو الذي كان من هؤلاء المجرمين الذين وقفوا من محمد هذا الموقف اللئيم، فكذبوه، وسخروا منه، وآدوه بكل ما قدروا عليه من ألوان الأذى.. فكأن هذا الضلال المستولى على بعض النفوس الخبيثة والطبائع المنكرة، هو داء متنقل، وميراث موروث، يأخذه الخلف عن السلف: {كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}.
أي أن الضلال القديم، ينغرس في قلوب هؤلاء المجرمين من مشركى قريش، فيكونون أشبه بحبة من حبات هذا العقد الذي ينتظم المقابح والمساويء، ويجمع الأشرار إلى الأشرار.
قوله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}.
الضمير في قوله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ} يرجع إلى هؤلاء المجرمين، وهم مشركو قريش، والضمير {به} يعود إلى النبىّ الكريم، الذي جاء ذكره في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ}.
والحديث عنه بضمير الغائب، تنويه بقدر النبي وتكريم له، وإشعار بأن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي يتولّى الدفاع عنه، ومحاسبة المجرمين على استهزائهم به.. ويجوز أن يكون هذا الضمير عائدا إلى القرآن الكريم، المذكور في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}.
وفى قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ}.
تهديد ووعيد لهؤلاء المجرمين من كفار قريش، وأن سنّة اللّه التي مضت في السابقين، كانت الهلاك والبلاء للمكذبين، والنصر، والعافية للمرسلين وأتباع المرسلين.. ولن تتبدل سنة اللّه مع هؤلاء المشركين من قريش ومن معهم! قوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}.
عرج إلى المكان: صعد إليه، والعروج، هو الصعود من أسفل إلى أعلى.
وسكرّت الأبصار: عميت وعشيت، وزاغت، شأن من تستولى عليه الخمر، ويصيبه دوار السّكر.
وفى الآيتين الكريمتين، ما يكشف عن الضلال الكثيف المنعقد على قلوب هؤلاء المجرمين، وأنهم- وهم في هذا الضلال- لا يرون لمعة من لمعات الهدى أبدا، ولو جاءتهم كل آية مبصرة.
فلو أن اللّه سبحانه فتح لهم بابا من السماء، فظلوا فيه يعرجون ويرتفعون صعدا، حتى يشهدوا الملأ الأعلى، وما فيه من آيات، تدعوهم إلى الإيمان باللّه- لأنكروا ما تشهده حواسّهم، ولاتّهموا أعينهم بأنها قد وقعت تحت حدث من الأحداث، فذهب بقدرتها على الإبصار.. أو لقالوا إن قوة خفية سحرتهم، وخيّلت إليهم هذا الذي يرونه. وهذا يعنى أنهم لن يؤمنوا أبدا، ولو جاءتهم تلك الآيات التي يقترحونها على النبىّ. إذ أن لهم، من ضلالهم، مع كل آية مكر، وفى كل معجزة قاهرة قول.


{وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)}.
التفسير:
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن اللّه سبحانه وتعالى ذكر في الآيات السابقة، ما استولى على قلوب المشركين من ظلام كثيف، وضلال مبين، حتى لو أنهم أصعد بهم إلى السّماء، وشهدوا ما في الملأ الأعلى من آيات، ما كان لهم في ذلك طريق إلى الهدى والإيمان باللّه، ولاتّهموا حواسّهم، وكذّبوا المشاهد المحسوس بين أيديهم.
أما الذين يرون الحق ويتبعونه، ويشهدون آيات اللّه، ويتلقون العبرة والعظة منها- فهؤلاء لهم في كل شيء آية، ولهم من عقولهم معارج يعرجون بها إلى السموات، وهم حيث هم، على هذه الأرض لم يبرحوها.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ} إشارة إلى ما للعقول السليمة من قدرة على النظر في ملكوت اللّه، وارتياد مواقع العبرة والعظة من آياته المبثوثة في هذا الملكوت.
فهذه السماء، وقد رفعها اللّه سبحانه بغير عمد، وجعلها بروجا ومدارات للكواكب والنجوم، وزينها بتلك الكواكب، وحلّاها بهذه النجوم- هذه السماء هى مراد فسيح للأنظار، ومسح معجب للعقول.. ينظر الناظرون إليها، فترتدّ إليهم أبصارهم منها وقد امتلأت عبرة وعظة، بما شهدت من جلال اللّه، وقدرته وعلمه وحكمته.. {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا} [191:
آل عمران].. فذلك هو ما يعطيه النظر السليم لأهله، من إيمان باللّه، وولاء لجلاله وعظمته.
قوله تعالى: {وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ}.
إشارة إلى أن السّماء ليست معرجا لأهل الأرض، وإن كانت مرادا لأبصارهم، ومسبحا لعقولهم.. وأن الشياطين- وهم من سكان الأرض- إن أرادوا العروج إلى السماء بما لهم من طبيعة قادرة على الانطلاق إلى آفاق عالية بعيدة- هؤلاء الشياطين لا يستطيعون أن يعرجوا إلى السماء، وغاية ما يمكن أن يبلغه أحدهم هو أن يحلّق بعيدا، يريد أن يدنو من الملأ الأعلى، ويسترق السمع، إلى ما احتواه هذا الملأ من غيوب وأسرار.. وعندئذ يجد الشيطان شهابا راصدا يرمى به، فيحترق ويهلك، دون أن يقع على شيء من علم اللّه.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [212: الشعراء].
وقوله سبحانه، على لسان الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً} [9: الجن].
وهنا سؤال.. وهو: هل إذا كان الجن لا يستطيع أن يعرج إلى السماء وأن يسترق السّمع، فهل يستطيع الإنسان أن يعرج إلى السماء، ويبلغ إلى هذا المدى الذ ي لم يبلغه الجن؟
إن إرهاصات كثيرة تشير إلى أن الإنسان الآن في طريقه إلى السماء، وأنه كاد ينجح في أن ينزل على القمر، بعد أن ارتاده بمراكب ألقت بمراسيها على سطحه، وهى تحمل عددا وآلات نقلت إلى الإنسان كثيرا من طبيعة هذا الكوكب.. فهل إذا نزل الإنسان إلى القمر أو إلى أي كوكب من الكواكب، أيكون في هذا ما يتعارض مع الآية الكريمة؟
والجواب على هذا، أن الآية الكريمة لم تعرض للإنسان، ولم تسلط عليه من السماء رجوما، كما سلطتها على الشياطين.
وعلى هذا،، فإن الطريق إلى السماء مفتوح للإنسان، وليس ثمة ما يحول بينه وبين أن يبلغ منها حيث وسع علمه وجهده.. إلّا أن الذي لا يبلغه الإنسان أبدا، هو أن يخترق حجب الغيب، ويعلم ما استأثر اللّه سبحانه وتعالى به من علم.. ذلك هو ما يقطع به إيماننا، ويحدّث به كتابنا.. أما ماوراء ذلك، فهو في مجال الاختبار لقدرة الإنسان.. والقرآن الكريم يفتح للعقل كل طريق لاختبار قدرته، بل ويبارك عليه كل خطوة موفقة يخطوها إلى الأمام، في ارتياد معالم الوجود، في الأرض وفى السماء، وكشف ما يستطيع كشفه من أسرار هذا الكون، في أرضه وسماواته على السواء! واللّه سبحانه وتعالى يقول: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ} [32: الرحمن] ففى الآية الكريمة إغراء وتحريض لعالمى الإنس والجن، على التسابق في ارتياد هذا الكون، والنفوذ من أقطار السموات والأرض، والغوص في أعماقهما، ولكن ذلك لا يكون إلا لمن ملك بين يديه القوة التي تمكن له من اخترق أطباق الأرض، وأجواء السماء، وتلك القوة هى التي أشارت إليها الآية الكريمة بكلمة {سلطان}.
والسلطان الذي يمنح الإنسان تلك القوة، هو العلم.
فبسلطان العلم يمتلك الإنسان القوة، وبتلك القوة وبالقدر الذي يحصل عليه الإنسان منها، يكون مبلغه من النفوذ في أقطار السموات والأرض.
ومع هذا، فإن هناك حرما إن دنا منه الشيطان احترق، كما أن هناك عوالم لا حصر لها، لا تطولها قدرة الإنسان، ولا يبلغ علمه منها شيئا: {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [85: الإسراء] فإذا بلغ الإنسان بعلمه وقدرته أن يستوى على ظهر هذه الكواكب المتصلة بفلك الأرض.. فهيهات أن يبلغ شيئا من العوالم الأخرى، التي تبلغ المسافات بينها وبين الإنسان ملايين من السنين الضوئية.. اللهم إلا أن يخرج الإنسان عن طبيعته، ويصبح خلقا آخر.
قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} وكما في السماء آيات لأولى الأبصار، فإن في الأرض آيات وآيات للناظرين.
فهذه الأرض، قد مدّها اللّه، وألقى فيها رواسى، أي غرس فيها جبالا راسية، وأنبت فيها من كل شيء موزون، أي كل شيء بحساب وقدر، مما ينفع الناس، والدواب، والطير، وكلّ حىّ يشارك الإنسان الحياة على هذه الأرض.
فما أنبت اللّه سبحانه في هذه الأرض، وما بثّ فيها من نبات، وحيوان، وجماد.. كل هذا بقدر مقدور، وبحساب موزون بميزان الحكمة، حتى يعتدل ميزان الحياة، ويكون للناس مستقر فيها ومتاع إلى حين.. ولو اختلّ هذا الميزان، بزيادة أو نقص، لما صلحت الحياة على هذه الأرض.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ} هو تفصيل لما أجملته الآية السابقة في قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} فهذا الذي تخرجه الأرض، هو مما يعيش فيه الإنسان، وتحيا عليه الأحياء الأخرى، التي لا يتولى الإنسان إطعامها.. من هوامّ، وحشرات، ووحوش، وطيور محلقة في السماء، وأسماك سابحة في البحار والأنهار.
وغير ذلك كثير، مما لا يعلمه إلا خالقها سبحانه وتعالى.. فهذه الكائنات كلها يرزقها اللّه سبحانه، ويقدّر لها أقواتها.
قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} إشارة إلى أن كل شيء هو إلى اللّه سبحانه، وفى يده جلّ شأنه، وأنه ينزّل من كلّ شيء بقدر معلوم، حسب ما تقضى حكمته، مما يصلح به أمر الناس وتعمر الأرض.
قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ}.
أي إن من قدرة اللّه سبحانه، ومن حكمته، أن أرسل هذه الرياح، فجعلها لواقح يكون من نتائجها هذا المطر الذي ينزل من الماء.. فالريح هى التي تحمل بخار الماء، فتنقله إلى أجواء باردة في آفاق السماء، حيث يصير سحابا.
ثم تدفع هذا السحاب، فيصطدم بعضه ببعض، ويتولد من هذا الصدام شرارات، هى البرق، الذي يكون أشبه بإشارة إلى ميلاد المطر ونزوله.. كما يقول سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ، فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [48: الروم] والرياح لقاح للنباتات، إذ تنقل لقاح كثير من ذكور النبات إلى إناثه، ولكن المنظور إليه منها هنا، هو لقاحها للسحاب، حيث جاء قوله تعالى بعد ذلك: {فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً}
فالفاء هنا للسببية، بمعنى أن هذا اللقاح، هو الذي يتسبب عنه نزول الماء من السماء.
هذا، والقرآن الكريم يفرّق بين الريح، والرياح.. فيذكر الرياح في مواطن الخير والرحمة، على حين يستعمل الريح في مواطن البلاء والنقمة.
ذلك أن الريح إذا كانت من مهب واحد كانت عقيما، لا تنتج شيئا، أو تحمل سموما، وأذى، كما في قوله: {وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [41: 42 الذاريات] وقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا.. بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ.. رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ} [24: الأحقاف].. فإذا أفردت الريح في مواطن الرحمة، ألحقت بوصف حسن، يرفع عنها الصفة الغالبة عليها.
كما في قوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [22: يونس].
أما إذا كانت الريح من جهات مختلفة، فإنه يلتقى بعضها ببعض، فتتوازن، وتعتدل، وتحمل الخير والرحمة، وتكون لقاحا للسحاب، وللنبات.
وفى قوله تعالى: {وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ} إشارة إلى أن هذا الماء، هو مما في يد اللّه، وفى خزائنه، وأن ليس لأحد أن يتصرف فيه إلا بما يأذن اللّه به منه.
كما يقول سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ}.
فهو مما في خزائن اللّه، وفى ملكه، وليس للناس قطرة منه إلا ما يجود اللّه به عليهم منه.
قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ}.
هو كشف لبعض قدرة اللّه، وأنه سبحانه بيده الحياة والموت.. وأنه ليس لهذه الحياة بقاء.. {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [88: القصص].. واللّه سبحانه يرث الأرض ومن عليها: {وَنَحْنُ الْوارِثُونَ} فلا يغترنّ أحد بهذه الدنيا، وإن أعطاه اللّه الكثير من زهرتها، وأفاض عليه الجزيل من متاعها.. فكلّ إلى زوال.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}.
هو كذلك كشف عن بعض علم اللّه، وأنه سبحانه قد علم ما كان من خلق قبل أن يخلقوا، السابقين من الخلق واللاحقين.. {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [14: الملك] قوله تعالى {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} هو تقرير للبعث، وأن الموت المحكوم به على الناس، ليس هو نهاية الحياة الإنسانية، بل هناك حياة أخرى بعد الحياة الدنيا.. فقد اقتضت حكمة اللّه، أن يكون للناس حياة أخرى يحاسبون فيها على أعمالهم، وينزلون فيها منازلهم حسب ما كان لهم من أعمال في دنياهم، وهو سبحانه {عَلِيمٌ} بما كان منهم، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة من أعمالهم.

1 | 2 | 3